الشهباء ــ بيانكا ماضيّة
“تعبيريّة بلا ضفاف”. . ربما كان العنوان الأكثر تمثيلاً لتجربة الفنان التشكيلي محمود الساجر، وهو العنوان الذي اختاره الكاتب محمد جمعة حمادة ليؤلف كتاباً عن الساجر، العام 2017، وعن تجربته وثقافته ذات الذائقة البصريّة العالية، وإدراكه الحقائق التي تسهم في بناء العمل الفني والنهوض به، بعيداً عن الاستعراض وعن معطيات اللوحة التقليديّة.
مما أشار له حمادة أن لوحات الساجر “اتخذت من التعبيريّة منهجاً لها، إذ عالجت، في معظمها، معاناة الإنسان وبحثه الدائب عن التواصل مع الآخر والخلاص، وعلاقة المرأة مع نفسها حيناً، ومع الرجل حيناً آخر. أدخل الفنان الساجر في وجوهه الحزينة، المتألمة، جانباً ذاتياً عميقاً، فأعطى لوحاته أبعاداً جديدة، إذ استطاع أن يربط معاناته الذاتيّة مع معاناة الآخرين، وأن يُعبّر عن الجانب المشترك في هذه المعاناة، وتمكن من أن يربط الفن بالناس، عبر ذلك الحزن الأخرس الذي عبّر فيه عن المأساة، وهذه الوجوه متعبة وساذجة، تحفر رسماً في طبقة بمادة تُلصق على السطح”.
محمود الساجر من مواليد منبج، 1955، درس الفن التشكيلي في المعهد العالي للفنون الجميلة “سوريكوف” في موسكو، وهو متعدد النشاطات الفنيّة: مصمم ديكور مسرحي، ومنتج للوحة التعبيريّة المتعددة الصيغ والأساليب. عمل محاضراً في كلية الهندسة المعماريّة بحلب، ودرّس الرسم والتصوير وتاريخ الفن في مركز فتحي محمد للفنون التشكيليّة. وأقام عدة معارض فرديّة، وشارك كذلك في معارض جماعيّة كثيرة.
في معرضه الأخير في صالة الخانجي، كان لـ “الشهباء” حوار معه تناول لوحاته، وعلاقته باللون، والحالات الإنسانية التي جسّدها، إضافة إلى وقفة مع البدايات، واستفادته من الفن الروسي، وتجربته في المسرح القومي، وحلب بالنسبة له.
لوحات المعرض
عن لوحاته المعروضة، والتي قد يجد فيها المتلقي ما يشير إلى السياسي، وخاصة لوحة “الماريونيت” يحدثنا الساجر:
هي حالات إنسانية، تحمل بعض الأفكار بشكل غير مباشر، لا موضوع سياسياً فيها، وقد يكون أقرب إلى الاجتماعي منه إلى السياسي.. لوحة “الماريونيت” ممكن أن تكون الوحيدة التي حاولت فيها التعبير عما حصل في حلب من دمار وإرهاب وقتل، ولكن بشكل غير مباشر. الأعمال أقرب إلى التعبيريّة التجريديّة، وهناك بعض الإيحاءات الإنسانية أو الوجوه، أو الأشكال الأقرب إلى الوجه.. الأقرب إلى المفردة الإنسانية. هناك رمزيّة لها دلالاتها وإشاراتها التي تحيل إلى حالة ما أو وضع ما، لكن ليس هناك ما هو سياسي، وأنا أكره السياسة، لكن قد يسقط الآخر المتلقي على الواقع السياسي.
يتابع: “أميل إلى اللون، وكثيراً ما اشتغل على الألوان، وأحياناً أفاجأ بأني قد توصلت إلى نتيجة ما على صعيد اللون، لكن لا أعرف كيف تتشكّل، إلا أني أحبها. أحياناً يكون هناك تضاد في الألوان التي أحاول مزجها، لكن عندما تتجسد هذه الألوان على الخامة، أو اللوحة، أجد أنها كثيراً ما تنسجم وتتعايش مع بعضها. هناك جرأة في اللون، وأحياناً أتردد في هذا المزج، لكن عندما أضعها أمامي وتكتمل اللوحة يصبح هناك نصّ بصري أجد فيه ألقاً لونياً، ومنظومة أو عجينة لونيّة غير متوقعة، لكنها مدهشة، وخدمت الفكرة وبلورتها وعمّقتها.
– كأننا نرى في أعمالك تكعيبية بيكاسو؟!
يجيب الساجر: لوحتي تجمع أغلب المدارس الفنية.. هذا ما قاله أحد الذين لهم معرفة وثقافة تشكيلية.. لوحتي تحتمل المجسّم، إذ اشتغل أنا ضمن هذا الاتجاه، أضيف لها شيئاً ما، أحياناً منحوتة تكون تحت اللوحة، وأحياناً أُخرج يدين من اللوحة – هذا وارد لديّ! – فالنص البصري المعاصر يحتمل مثل هذه الإدخالات، حتى أننا نجد في بعض الأعمال أو التجارب الفنية مثل هذه الأمور، فتكون أعمالاً تركيبية أو تجميعيّة. وفي لوحتي هناك التعبيري، الواقعي المحوَّر المختزل، وهناك بعض الحلول الهندسية القريبة من التكعيبية، ولكنها ليست تكعيبية بيكاسو.. هناك خطوط أو تقاطعات قاسية أنا أقصدها، بالتأكيد، من أجل المتلقي، فإما أن تشدّه اللوحة، وإما أن يتركها ويمضي.
ويردف بالقول: في اللوحة إذن، هناك التعبيرية والتجريدية والسريالية، وأحياناً الرمزية.. أنا أعمل وفق فكرة أن اللوحة نصّ بصريّ مفتوح، ونصّ قابل لأغلب الحلول التشكيلية أو المذاهب التشكيلية. لاشيء عندي ليس له حلّ، أنا الذي أطوعه، فالفنان الذي لديه مخزون فكري أو معرفي يحاول أن يصوغه بالشكل الذي يراه مناسباً، ومؤثراً أيضاً.
اعتمد تقنياً على الزيتي.. كنت اعتمد سابقاً على المعجونة، لكنني وجدت أن هذه المعجونة مسيئة للوحة حين النقل من مكان إلى آخر. أغلب لوحات هذا المعرض هي ألوان.. ألوان صينيّة، ولكني عالجتها بطريقة مقبولة نوعاً ما، وهذا ما كنت أعاني منه، لأن مشكلة اللون الصيني تكمن في أنه يتأكسد ويُظهر بقعاً، وخاصة الألوان التي يجلبها التجار، وهي من أسوأ الأنواع، فأحياناً أضع الأحمر فأراه متألقاً، وفي اليوم الثاني أجده “مبوّحاً” فأعيد معالجته بالفرنيش، ومرة إثر أخرى، من أجل أن أعطيه حياة وألقاً.
حالات إنسانية محددة
عن الحالات الإنسانية التي تشده فيجسّدها في لوحة، يقول الساجر: هناك حالة أشعر أنها غير واقعية، هناك حلم، حالة إنسانية أحاول التعبير عنها لكنها غير مرسومة على حقيقتها، أي أقرب إلى الروحية منها إلى الواقعية، هي طيف، خيال، حلم! الإنسان غالباً ما أختزله في لوحاتي، فأعطيه مساحة لونية.. الحالات هذه تعتمد على الأحاسيس والمشاعر، فقضية تجسيدها أو التعبير عنها صعبة جداً، لأن العمل عندما يكون صغير الحجم يمكن أن يجسد بجلسة واحدة، أو بدفقة واحدة – كما نقول – أو بإرهاصة، لكن عندما يكون العمل كبيراً فهناك صعوبة كبيرة، لأني لابد من أن أحمّله إحساساً أو شعوراً.. لذلك هو صعب!!
الأحمر والمرأة
عن علاقته باللون الأحمر والمرأة، يقول الساجر: أحب اللون الأحمر، فهو الحياة والنبض، هو شقائق النعمان، هو تجدد للحياة، الأحمر لون مثير، كما أني أحب النساء جداً، لا أحد في هذا العالم لا يحب المرأة، هي مثال للجمال والأخلاق والمدرسة، وفي بعض العصور هي صورة الآلهة. إن مفهوم الرجل الشرقي عن المرأة يأتي في إطار تحجيمها وتأطيرها في مكان واحد، هو المنزل، ومن الغباء أن تقبل المرأة بهذا الأمر.
البدايات
نعود إلى البدايات الفنية، وكيف أظهر الساجر ما في داخله على لوحة، فيقول: في البداية سجلت في كلية الفنون الجميلة بدمشق، قسم التصوير، وكان أستاذي آنذاك فاتح المدرّس. بعد ذلك سافرت بمنحة إلى الاتحاد السوفييتي، رغم أن رغبتي كانت أن أعمل هناك في أفلام الكرتون، لكني – وفق المنحة – ذهبت إلى المعهد العالي للفنون الجميلة، ووجدت أن أكثر ما يناسبني هو ديكور المسرح “السينوغرافيا”. وبما أن أخي فواز – رحمه الله – مخرج مسرحي، فقد كانت رؤيتي أن نعمل معاً في هذا المسرح.
منذ الإعدادية كنا نرسم.. درّسنا، في مدرسة الحسن بن الهيثم، الأستاذ أديب قدورة، وأخي عدنان الساجر، كنا نحن الثلاثة (عصام حتيتو، محمود الساجر، فواز أرناؤوط) جالسين على مقعد واحد، ونحن الثلاثة من مدينة منبج، وشاء القدر أن أسافر إلى روسيا، وأكمل دراستي، لكن هناك أرضيّة، وموهبة، من أين؟! لا أعلم! من والدتي الشركسيّة أم من والدي البدوي؟! لا أعرف!
الفن الروسي
عن دراسته في روسيا واستفادته من الفن الروسي، يقول الساجر: رغم أن اختصاصنا كان الديكور المسرحي إلا أن المنهاج الخاص بنا كان عبارة عن منهاج عالمي.. يومياً ثلاث ساعات رسم صباحاً، ثم استراحة، ثم ثلاث ساعات تصوير.. يوم السبت فقط كان عملنا في السينوغرافيا، نختار مسرحية، نقرؤها، ونقوم بدراستها، ثم نُطلع البروفيسور على ما قمنا به. لقد كانت دراسة حقيقية ومتعبة.. ست ساعات يومياً، منذ السنة الأولى حتى السنة الخامسة، والتخرّج في السنة السادسة. ما استفدت منه هناك أني رأيت مسرحاً، باليه، مسرحاً معاصراً، مسرح “كلاسيك”.. أغلب أعمال تشيخوف.. وعدا عن كونه مسرحاً فقد كنا أمام لوحة.. كان أمراً أسطورياً.
عدنان وفواز
وعن علاقته بأخويه عدنان وفواز، يقول: أخي عدنان درس الفنون في دمشق، ثم سافر إلى الإمارات وبقي فيها مدة 20 عاماً.. لم يشتغل لوحات، بل كان يدرّس رغم أنه فنان ومهندس ديكور.. أما فواز فقد عشت معه في موسكو، وقد سافر ليكمل الدكتوراه هناك، ما بين العامين 1982 و1985.. فواز بالنسبة لي أخ وصديق، وكنا على أمل العمل معاً. عدتُ إلى حلب، العام 1986، وعملت في “الإسكان العسكرية”، واستشرته في نقل وظيفتي إلى المسرح القومي، فأشار إلى بقائي في الإسكان كيلا يطلب المساعدة من أحد (هكذا كانت طريقة تفكيره!). ثم توفي العام 1988، فلم يحصل أي تعاون بيينا، ولم يحضر لي أي معرض، وكان أول معرض أقمته، 1988، تحية إلى روح فواز الساجر.
المسرح القومي
وعن هذه التجربة، يقول: أحب المسرح، وكنت أرغب في أن يكون هناك مخرج موهوب بكل معنى الكلمة.. وهنا لا أنتقص من قيمة أحد، إذ قدمت دراسات كثيرة، فيها حركة، وبعض الفانتازيا أو الخيال، ويمكن أن يوظفها المخرج بنفسه.. كان لدي بعض هذه الاقتراحات التي تحتوي أموراً لا واقعية، لكن للأسف لم يكن هذا موجوداً في المسرح ولم يوظف بشكل جيد. اشتغلت مع أغلب المخرجين بحلب، وهم جيدون، حتى أن حسين إدلبي، وكان في دمشق، اشتغلت معه “قلعة الحكواتي”، وهو النص الوحيد الذي أعده ممتازاً، من ناحية الإخراج والديكور.
يتابع: مع الشبيبة، اشتغلت في الديكور أهم الأعمال بالنسبة لي، إذ كان الشباب متحمّسين، وليس لديهم ما هو ممنوع أو غير ممنوع.. كل ما يخدم غرض المسرحية يقبلون به. اشتغلت آنذاك “الوردةط لمحمد أبو معتوق، وأخرجها حسام حمود، وفيها وظفت النوازل التي كانت أقرب إلى الفن الروسي، وكانت مسرحية جميلة جداً. اشتغلت أعمالاً مهمة مع وانيس باندك، ومع إيليا قجميني، ومع كريكور كلش، وكم كنت أرغب أن يكون هناك تحريض لمهندس الديكور من قبل المخرج بشكل عام، لكن ذلك لم يكن موجوداً.
حلب
– كيف هي حال هذه المدينة في ذاكرة الفنان الساجر؟!
يجيبنا: يقال إن حلب مدينة الحضارة والثقافة والأدب والفن، لكن الأمر السلبي الذي أتحدث عنه دوماً هو أن حلب عبارة عن مدينة لها علاقة بالأكل فقط، إذ كانت على ملتقى طريق الحرير، ووجود الخانات لعب دوراً في أن ينتعش فن الطبخ وفن الموسيقا، أما على صعيد الفن التشكيلي فهناك تغييب غير مقصود، وهذا الفن بحاجة إلى رعاية واهتمام وتبنٍّ، وحلب للأسف لم ينتعش فيها هذا الفن، فبالرغم من أنها مدينة صناعية ونقطة تمركز للاقتصاد ورأس المال، إلا أني لم أرَ تاجراً أو صناعياً لديه اهتمام باللوحة، وهذا ما نعاني منه بشكل دائم.
أنا لا أنكر تاريخ حلب، ولكن هذا التاريخ ليس كل شيء، أنا ابن هذا العصر، الموسيقا اليوم لا تواكب هذا العصر، نحن نتغنى بأمور لا تمت إلى الفن أو الحضارة أو الثقافة بصلة، فماذا طورنا بهذه الموسيقا؟! فكما نتغنى بالمطبخ الحلبي والموسيقا الحلبية، يجب أن يكون هناك شيء حضاري نتغنى به، ما الذي يمنع أن يكون هناك لوحة جداريّة في إحدى الساحات؟! يجب أن تكون هناك ثقافة بصرية، وهذا الأمر يقع على عاتق المسؤولين عن هذه الثقافة! أي إنسان يكون في موقع المسؤولية يجب أن يكون على اطلاع، والثقافة البصرية تكاد تكون معدومة لدينا.
في حلب لا يوجد تسويق للوحة.. كان هناك صالات خاصة قبل الحرب تهتم بهذا الأمر. في دمشق صالات كثيرة وتسويق كبير للوحة، أما في حلب فهناك النقابة، و”صالة تيسير” وقد توقفت لفترة واليوم يعود صاحبها لإحيائها، ولكن الصالة الوحيدة التي لم تغلق أبوابها هي “صالة الخانجي”.
نحن، كفنانين، نطمح إلى أن يكون هذا الفن جماهيرياً.. الفن ليس نخبوياً، وحتى الفن النخبوي غير موجود، وكما رأيت في افتتاح معرضي هذا، إذ لولا الأصدقاء والأقارب والمعارف لما كان هناك جمهور! ما نعاني منه هو عدم وجود ثقافة بصريّة، أو ثقافة تشكيليّة، ويقع على الإعلام العبء الأكبر لحل هذه المشكلة، فالفن والثقافة أساس المجتمع.