الشهباء ــ نزار طنطورة
تشكل الأسواق التقليدية لحلب القديمة نقطة جذب رئيسية للسياحة الداخلية والخارجية، وهي عصب المدينة القديمة وشريانها الحيوي، إذ تعد من أهم المعالم الأثرية في العالم، وقيمة أثرية نادرة، وتمثل حقبة مهمة في حياة المدينة وازدهارها الصناعي والتجاري، وهي أطول الأسواق المسقوفة في العالم، وتمتد على مسافة 12 كم، ومساحتها 16 هكتاراً. ويبلغ عدد هذه الأسواق تسعة وثلاثين سوقاً تضمّ المحلات التجارية بمهن متنوعة، إضافة إلى الخانات والمدارس والمساجد والحمامات. وخلال الحرب، تعرضت هذه الأسواق لأضرار كبيرة نتيجة أعمال الحرق والتدمير الممنهج التي ارتكبتها العصابات الإرهابية المسلحة، خلال فترة تواجدها في تلك المنطقة، في محاولة منها لطمس هويتها وصبغتها التاريخية والتجارية والحضارية.
بعد تحرير حلب وتطهير المدينة القديمة من رجس تلك العصابات، بدأت الجهات المعنية في حلب العمل على إزالة آثار الدمار والخراب وتأهيل البنى التحتية بهدف إعادة الحياة إلى المدينة القديمة، إلا أن عجلة إعادة الإعمار لاتزال تسير ببطء شديد، إذ لم نشهد تحركاً جدياً وفعلياً من قبل الجهات العامة تجاه إعادة إعمار الأسواق التقليدية التي كانت أحد دعائم الاقتصاد الأساسية لما لها من أهمية تجارية على مستوى العالم، حيث اقتصر التدخل – حتى الآن – على المبادرات الأهلية والفردية وبرامج الدعم من قبل المنظمات الدولية، إضافة إلى تدخل جهات داعمة خاصة كان آخرها تأهيل سوق السقطية من قبل مؤسسة الآغا خان والأمانة السورية للتنمية بإشراف مديرية الآثار والمتاحف ومديرية المدينة القديمة في حلب، حيث شارفت أعمال تأهيل هذا السوق على الانتهاء؛ وسبق ذلك افتتاح أسواق المحمص والنحاسين والشام بعد تقديم الدعم لعدد من أصحاب المحلات من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDPK، ومطرانية السريان الأرثوذكس بحلب، ضمن برنامج دعم سبل العيش.
المنطقة غير مؤهلة
يقول وجيه عقاد، صاحب محل في سوق اسطنبول القديم “سوق تفضلي”: كافة أصحاب المحلات لديهم الرغبة في العودة إلى السوق، ونأمل من الجهات المعنية العمل على إعادة تأهيله حيث تعرض لأضرار كبيرة في السقف، لكننا لا نلمس أي تحرك تجاه هذا الأمر، وحتى الآن لم يتم ترحيل الأنقاض من السوق؛ ونحن جاهزون للتعاون، لكن تأهيل السقف يحتاج إلى تدخل الدولة ونحن نكمل بعدها تأهيل محلاتنا.
عبد الغني آلاجاتي، صاحب محل بياضات في سوق المحمص، يقول: لولا مساعدة المنظمات الدولية لي لما استطعت افتتاح محلي؛ وأكد ذلك جمال أبو ردن، صاحب محل أقمشة في السوق ذاتها، حيث قام بافتتاح محله بعد مساعدته من قبل منظمة UNDP، ضمن برنامج دعم سبل العيش، مشيراً إلى عدم وجود حركة تجارية بسبب أن المنطقة غير مؤهلة حتى الآن لممارسة النشاط التجاري واستقبال الزبائن – حسب تعبيره – حيث الكهرباء غير متوفرة، والطرقات المؤدية إلى السوق غير مؤهلة، لافتاً إلى أنه يجب معالجة الدمار المحيط بالمكان حتى يتشجع الناس على الدخول إلى السوق، كما يجب تأمين وصول التيار الكهربائي والإنارة.
ترحيل أنقاض وفرز أحجار
مدير المدينة القديمة، المهندس أحمد الشهابي، أوضح أن جزءاً من الأسواق التقليدية القديمة أضرارها خفيفة، وهي تشمل المحور الممتد من باب انطاكية وصولاً إلى سوق السقطية، وبعض الأسواق أصابها تهدم جزئي كسوق الزرب، فيما تعرضت أسواق أخرى لدمار وتهدم كاملين كسوق العطارين، حيث نالت الأسواق المحيطة بالمسجد الأموي النصيب الأكبر من الضرر، مبيناً أن مديرية المدينة القديمة قامت بالتدخل في الأسواق التقليدية بترحيل الأنقاض وفرز الأحجار، ومازال هناك بعض الإعاقات من الأنقاض، خاصة في الأسواق التي تعرضت لتهدم كامل حيث لم يتم التدخل فيها بالشكل المطلوب، ويبلغ عدد هذه الأسواق 13 سوقاً تشكل ثلث المساحة الإجمالية للأسواق، لافتاً إلى أن باقي الأسواق تم ترحيل الأنقاض فيها بشكل شبه كامل.
وأضاف الشهابي أنه تم مؤخراً زج 40 عاملاً بالتعاون مع منظمة UNDP للمباشرة بفرز وترحيل أنقاض محيط الجامع الأموي مبدئياً، مع الاستمرار في الأسواق كاملة، وسيشمل الترحيل الأنقاض المتراكمة داخل المحلات التي ليس لها أبواب، وذلك بالتنسيق مع غرفة التجارة، بحيث يتم الانتهاء من الترحيل والتنظيف للأسواق كاملة خلال فترة 3 أشهر تقريباً؛ كما تم إدراج عقد لترحيل الأنقاض وفرز الأحجار في الأسواق التقليدية بقيمة 200 مليون ليرة، من ضمن المليار ليرة المخصصة للمدينة القديمة؛ كذلك سيتم تخصيص مبلغ لحالات السلامة العامة ضمن المدينة القديمة، ومنها الأسواق التقليدية، للقيام بأعمال التدعيم وإزالة أسباب الخطورة.
تأهيل الشريان الرئيسي
وأشار مدير المدينة القديمة إلى أن المديرية تعمل على تأهيل الشريان الرئيسي للأسواق التقليدية (السوق المستقيم) الممتد من سوق الزرب وصولاً إلى باب انطاكية، مؤكداً أن هذا العمل يشكل أولوية لمديرية المدينة القديمة، في الوقت الحالي، وذلك لتأمين إمكانية الوصول لكل أسواق المدينة والتمهيد لعودة النشاط التجاري فيها، منوهاً إلى أنه يتم حالياً إعداد دراسة لتأهيل سوق الزرب ليكون نقطة دخول مضيئة إلى باقي أسواق المدينة.
وفيما يخص البنى التحتية للأسواق، ذكر الشهابي أن الأسواق، التي لم تتعرض لضرر كبير، بناها التحتية سليمة، مشيراً إلى أن مديرية المدينة القديمة قامت مؤخراً بتقييم حاجة الأسواق من الأعمال المعمارية والإنشائية اللازمة لإعادة تأهيل هذه الأسواق، ويتم العمل حالياً على وضع دليل سعري للأعمال المطلوب تنفيذها في الأسواق التقليدية لتحديد المبالغ المالية المطلوب رصدها للمباشرة بإعادة تأهيل الأسواق التقليدية كاملة.
الحاجة لدعم حكومي
مجد الدين دباغ، رئيس غرفة تجارة حلب، أشار إلى أن العمل في الأسواق القديمة ابتدأ من مبادرة غرفة تجارة حلب بالتواصل مع أصحاب المحلات في الأسواق الأقل ضرراً حتى تمكن أصحاب هذه المحلات – وعلى نفقتهم الخاصة – من إعادة تأهيل محلاتهم، حيث تم افتتاح سوق وخان الجمرك وخان خاير بيك وسوق وراء الجامع بعد أن تمت إعادة تأهيل المحلات وأصبحت جاهزة للحركة التجارية؛ ولكن الأضرار الكبيرة التي أصابت المحاور الرئيسية للدخول إلى أسواق المدينة القديمة – سيما أن هناك بعض الأسواق هدمت أسقفها بشكل كامل – أخرت بدء الأعمال في هذه المحلات، حيث لاتزال نسبة عدد المحلات التي افتتحت وعادت إلى العمل خجولة، لافتاً إلى أن المعوق الرئيسي لإعادة تأهيل الأسواق التقليدية وعودة الحياة التجارية إليها يتمثل في دمار أسقفها، وهو ما يتطلب تدخل الجهات العامة لإعادة تأهيل وبناء هذه الأسقف ليتمكن التجار من تأهيل محلاتهم، منوهاً إلى أن على الجهات العامة أن تبذل جهداً إضافياً لدراسة الواقع العمراني لهذه المناطق، خاصة أنها تحمل صفة تراثية، وأن تقرر صرف ميزانيات خاصة فعلية لإعادة تأهيل الأسواق التقليدية؛ وهذه الرؤية تحتاج إلى دعم حكومي حقيقي بالنسبة للانهيارات التي حدثت في بعض الأسواق، مثل سوق الزرب وسوق العبي وسوق العطارين وسوق القطن، والتي لحقت بها أضرار بالأسقف، وتحتاج إلى تدخل إيجابي من الجهات العامة لإعادة تأهيلها بالشكل الأمثل، وبما يضمن الحفاظ على الصفة التراثية لهذه الأسواق.
مسؤولية وطنية
عضو المكتب التنفيذي لقطاع المدينة القديمة في مجلس مدينة حلب، المهندس محمد عنبر، قال إنّ إعادة ترميم الأسواق القديمة في مدينة حلب، والتي تُشكّل جزءاً لا يتجزأ من هويتها التاريخية وتراثها الحضاري المرتبط بنيوياً بالهوية الثقافية لهذه المدينة، يُحتّم علينا أن ننظر إلى هذا المشروع القومي، ذي البعد الحضاري والإنساني، على أنه واجب وطني، وجزء لا يتجزأ من مسيرة النهوض الاقتصادي وعملية إعادة الإعمار، لذا فإننا أمام مسؤولية وطنية متكاملة مرتبطة بحفظ الهوية الاقتصادية والتاريخية لحلب، والتي طالما ميّزتها عن سائر المدن، لأنها شريان الاقتصاد بين مدن الشرق، لذا فنحن نرى أنّ الخطوات التنفيذية لإعادة إحياء هذه الهوية مُرتبطة بالتوثيق التاريخي ودراسة الواقع الراهن للموقع العام لهذه الأسواق دراسة تفصيلية مُتأنية تُشكّل المدخل لوضع دراسة تخطيطية متكاملة لإعادة ترميم تلك الأسواق والحفاظ على هويتها المعمارية ونسيجها العمراني والاقتصادي والاجتماعي بتفاصيله كاملة، لنؤكد من خلاله أننا أُمناء في الحفاظ على الهوية الاقتصادية لهذه الأسواق بمُكوّناتها كاملة، وما تُشكّله من ذاكرة لا تتجزأ من هوية وذاكرة هذه المدينة، وهو ما يتطلب تضافر الجهود النوعية لشركاء العمل كافة للبدء بإعداد الدراسات التي تتناول التفاصيل المكونة لهذه الأسواق تاريخياً ومعمارياً وإنشائياً، ليتسنى لنا البدء بوضع خارطة طريق لتعافي هذه الأسواق في المنظور القريب والمتوسط والاستراتيجي، ولنثبت قيمة الانتماء للانتصار الذي كلّف سيلاً من الدماء، والذي حول زمن الانتصار إلى تاريخ”.
دراسة تخطيطية
وبين المهندس عنبر إنّ عملية الدراسة التخطيطية يجب أن تستند إلى محاور عديدة، في مقدمتها الدراسة التاريخية والمعمارية والإنشائية المتكاملة للموقع العام وبنيته التحتية وربط الموقع العام بالكتل المعمارية والإنشائية المحيطة والتطورات والتغيُّرات التي طرأت عليها عبر المراحل إلى عصرنا هذا، إضافة إلى إجراء سبور للموقع العام ومحيطه للتأكد من ميكانيك التربة، ودراسة الأساس المُكوّن لكتلة الأسواق والمحاور المُؤديّة إليها على نحو متكامل، ومن ثم إجراء اختبارات للتربة وإجراء اختبارات مقاومة مخبرية لكافة مواد البناء المطلوبة في إعادة الترميم والبناء، علاوة على دراسة المناسيب المائية في الموقع العام ومحيطه بغية التأكد من عدم حدوث تسرُبات مائية قد تُسبّب خللاً في ميكانيك التربة مستقبلاً واتخاذ كافة الحلول للحيلولة دون حدوث أي إشكالية تؤثر على بنية الأسواق إنشائياً ومعمارياً، وأخيراً العمل على استصدار تشريعات قادرة على وضع إجراء لتجاوز إشكالية تداخل الملكيات كي لا تُشكّل عقبة في مشروع إعادة الأسواق وترميمها.
خلاصة الكلام
ويقول المهندس عنبر: لا يمكن إعادة ضخ شريان الحياة في النسيج الاقتصادي لحلب القديمة ما لم نتمكن من إعادة ترميم النسيج الاجتماعي للمدينة القديمة، والذي يُشكّل الرافعة الأساس لإعادة ضخ شريان الحياة في بقعة الأسواق التقليدية القديمة؛ ومن هذا المنطلق يجب أن نبحث عن العناصر التي من شانها أن تُعيد حلب إلى سُدّة الحياة الاقتصادية في المنطقة.
ويضيف: إنّ إصرارنا على إعادة إحياء الهوية الاقتصادية لحلب القديمة والمتمثلة بأسواقها التقليدية يجب أن تكون أولويته الحفاظ على هوية هذه الأسواق كجزء حيوي من الهوية التاريخية والتراث الحضاري لهذه المدينة، وهو ما يتمثل بالتزامنا بالمعايير الفنية والمواثيق الدولية التي تؤكد قدرة الإنسان السوري على حفظ وإحياء والتمسك بهويته التاريخية، والتي يمثل البعد الحضاري والإنساني أهم مُفرداتها التي تعكس تمسُّكه بقيم الأصالة التاريخية التي تُشكّل النواة الأساس للذاكرة التاريخية لتكون أمانتنا ووديعتنا لأجيال تُدرك وتعي وتتمسّك بقيم الهوية والأصالة والثقافة والتاريخ، ولنؤكد أنّ ثقافة الظلام والإرهاب والتدمير لا يمكن لها أن تطمس ثقافة النور والإعمار والحفاظ على قيم الأصالة والانتماء، والتي تُشكّل حلب في عراقتها العقد الفريد لهذا النور الذي لا يمكن حجب ضوئه بغربال الظلام.