علي عبود
يبدو أن الحكومة قررت أخيرا إعادة الروح للقطاع الزراعي بعد إهمال استمر قرابة العقدين من الزمن، وتجسد هذا الاهتمام بتبني نهج تصنيع بدائل المستوردات أو الاعتماد على الذات. وكما نعرف، فإن سورية بلد زراعي، وبالتالي فإنه قادر على تصنيع منتجاته الزراعية على شكل سلع معدة للتصدير، وليس تصديرها كمواد خام، والأهم إن العودة إلى نهج “الأولوية للزراعة” يعني العودة إلى إنتاج السلع الغذائية الأساسية وفي مقدمتها الحبوب.
لقد تخلّت الحكومات السابقة عن هذا النهج من خلال تدشينها لمرحلة عنوانها العريض “الأراضي المروية لاتعنينا.. والسدود نسيناها”. وقد بدأت هذه المرحلة علنا في العام 2005 بتبني حكومة 2003/2011 نهج السوق الليبرالي المتوحش الذي أسفر عن نتائج كارثية كان أبرز آثارها تحويل سورية من بلد مصدر إلى مستورد للقمح منذ العام 2008. وبعدما كانت الحكومات في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي تنفق سنويا أكثر من 12 مليار ليرة على مشاريع الري والإصلاح (أي أكثر من 120 مليار بالقيمة الفعلية حاليا)، تراجع الإنفاق إلى حدوده الدنيا مع تهميش ممنهج لشركات الري والاستصلاح. وما صدر من قرارات عن الحكومة في الأشهر الأخيرة يوحي بأنها تولي اهتماما كبيرا للزراعة، وخاصة المروية منها، وقد رصدت فعليا بضعة مليارات لتطوير الري الحديث.
السؤال الآن: هل انتهت مرحلة “الأراضي الزراعية لا تعنينا والسدود نسيناها”؟ أم لايزال الوقت مبكرا جدا لتدشين مرحلة “الأولوية للزراعة المروية” التي تحتاج إلى خطط خمسية لإخراجها إلى التطبيق الفعلي؟!!
الحصاد المر
لم تتحول سورية إلى بلد مستورد للقمح إلا بعد تبني حكومة 2003/2011 لنهج “السوق الليبرالي” في العام 2005، وكانت مستودعاتنا ملأى بأكثر من 5 ملايين طن، أي تكفي سورية لأكثر من ثلاث سنوات دون أي محصول جديد. ولا ندري على ماذا كانت تراهن الحكومة آنذاك بتطبيقها لليبرالية الاقتصادية لأن حصاد سياساتها كان مرا على الوطن والعباد. وعلى الرغم من النتائج “المريرة” التي حصدناها من سياسات حكومة 2003/2011 منذ العام 2008، فقد استمرت في نهجها، ولم تتراجع قبل فوات الآوان، أي بالعودة إلى دعم قطاعي الإنتاج – الزراعة والصناعة – بدلا من الرهان على دعم القطاع الريعي. وكانت الضربة القاضية للقطاعات الإنتاجية تحرير أسعار المحروقات من جهة، ورفع أسعار مستلزمات الإنتاج الزراعي والصناعي من جهة أخرى!
الملفت ان الحكومات السابقة ألقت بمسؤولية تدهور القطاع الزراعي، ولا سيما البدء بمرحلة تحول سورية إلى بلد مستورد للقمح في العام 2008، إلى المناخ الجاف!
كيف واجهنا الجفاف؟
إذا كان تراجع الإنتاج الزراعي يتعلق بالجفاف فقط، فإن السؤال: كيف واجهت الحكومات السابقة الجفاف الذي عصف بالمنطقة، وليس بسورية فقط؟
الحكومات السابقة، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، واجهت الجفاف باستصلاح الأراضي وبناء السدود وشبكات الري لزيادة الأراضي المروية، أي بتخزين المياه لاستخدامها في الأشهر الجافة، أما حكومة 2003/2011 فقد أقرت خططا واستراتيجيات أهملت فيها كل ما له علاقة بمواجهة ما يمكن تسميته “عصر الجفاف”. وكل من يعود إلى خطط تلك الحكومة وأولوياتها الاقتصادية فيما يخص القطاع الزراعي ومواجهة الجفاف سيكتشف فورا أنها بالحدود الدنيا، حتى لا نقول “صفرا”، ويكاد يكون شعار حكومة 2003/2011 الفعلي الذي طبقته بشراسة: “الأراضي المروية لا تعنينا.. والسدود نسيناها!”.
وبما أن هذا هو شعارها فإنه من الطبيعي أن لاتهتم بمشاريع الري والاستصلاح وهذا مافعلته تماما.. لأن أولوياتها انصبت على جذب الاستثمارات التي تشجع على الاستهلاك والاستيراد وليس على الإنتاج والتصدير. ولا ندري ما كان مصير القطاع الزراعي لولا إنجازات الحكومات السابقة في استصلاح الأراضي وبناء السدود.. لربما تحولت سورية إلى دولة مستوردة لكل احتياجاتها من الحبوب وغيرها من السلع الغذائية، مع ما يعنيه ذلك من مخاطر تهدد الأمن الغذائي. وقلة تتذكر أن المواطن كان يهدر ساعات طويلة امام صالات الخضار في ثمانينيات القرن الماضي للحصول على كيلو غرام واحد من الحمضيات. وإذا كانت الحكومات السابقة انشغلت كليا، منذ العام 2005، بالاستثمارات غير الزراعية، ولا تتذكّر الزراعة إلا في المواسم القاحلة، فإن الحكومات اللاحقة لم تستدرك فداحة ما يحصل حتى الآن.. فلماذا؟
إحصائيات صادمة
حسنا، إن لم تكن حكومة 2003/2011 معنية بزيادة الأراضي المروية والسدود، فعلى الأقل كان بإمكانها أن تحافظ على ما هو موجود، لا أن تعمل على تدميره. ونحن لا نتكلم بالعموميات، ولكن بالأرقام الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء:
كانت مساحة الأراضي المروية في العام الأول لمباشرة حكومة 2003/2011 عهدها تبلغ 1.439 مليون هكتار، فأصبحت 1.341 مليون هكتار، العام 2010. وهذا يعني أن حجم التراجع بالأراضي المروية بلغ 98 ألف هكتاراً أنفقنا لإنجازه مئات المليارات خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات!
وما حصل من تدهور في الأراضي المروية كان نتيجة طبيعية وترجمة تنفيذية للإهمال المتعمد لمشاريع الاستصلاح والسدود من خلال تصفية القطاع العام الإنشائي، وبالتالي فآخر سد تم تدشينه في سورية كان في عهد حكومة 2003/2011، وبعدها لم يدشن أي سد جديد حتى نهاية عام 2010، حسب الأرقام الرسمية.
وقد تخفي هذه الأرقام ما هو أعظم وأخطر على أرض الواقع!!
وإذا أردنا التفصيل أكثر، فإن عقد تسعينيات القرن الماضي شهد تدشين 18 سدا مقابل أربعة سدود خلال أعوام 2000/2003.. وصفرا خلال أعوام 2003/2010!
لماذا الاهتمام بالري الحديث؟
ترى هل سيتغير المشهد خلال السنوات القادمة من خلال العودة إلى سياسات الاعتماد على الذات؟
آثرت حكومة المهندس عماد خميس الاهتمام بالري الحديث كمدخل لدعمها للقطاع الزراعي، وتحديدا للزراعة المروية، لأنها السبيل الوحيد لتحقيق أمننا الذاتي من السلع الزراعية والصناعية. ولكن لماذا الري الحديث تحديدا، وليس الزرعة المروية عموما؟
تشير إحصائيات المكتب المركزي للإحصاء إلى أن استخدام تقنيات الري الحديث (رذاذ، تنقيط) لايزال متواضعا مقارنة بأساليب الري التقليدية (الغمر)، مع ما يعنيه ذلك من تبذير لمواردنا المائية الشحيحة وتدهور الخصائص الفنية للتربة الزراعية، بل وتخريبها، وإخراج مساحات واسعة منها بفعل التملح. ولكي نعطي صورة واضحة عن الواقع الفعلي للزراعة المروية التي كانت سائدة، حتى العام 2011، لابد من استعراض الأرقام التالية:
بلغت مساحة الأراضي المروية من مشاريع الري الحكومية 358.4 ألف هكتار العام 2007، زادت إلى 387.1 ألف هكتار العام 2008، انخفضت إلى 365.5 ألف هكتار العام 2009، وزادت قليلا إلى 377.2 العام 2010، فإلى 391 ألف هكتار العام 2011.
وبالمقابل، بلغت المساحة المروية من الآبار 813.2 ألف هكتار العام 2007، انخفضت إلى 760.1 ألف هكتار العام 2008، فإلى 656.2 ألف هكتار العام 2009، ثم زادت إلى 726.8 ألف هكتار العام 2010، فإلى 751.9 العام 2011.
وبلغت المساحة المروية من الأنهار 224.8 ألف هكتار العام 2007، انخفضت إلى 208.2 العام 2008، ثم زادت إلى 216.6 ألف هكتار العام 2009، فإلى 236.8 ألف هكتار العام 2010، فإلى 256.1 ألف هكتار العام 2011.
أما الأراضي المروية بالري الحديث فقد بلغت 243.8 ألف هكتار العام 2007، زادت إلى 253.4 ألف هكتار العام 2008، فإلى 281.9 ألف هكتار العام 2009، فإلى 298 ألف هكتار العام 2010، فإلى 313.9 ألف هكتار العام 2011.
ونستنتج من هذه الأرقام أن الاستفادة من شبكات الري والسدود لاتزال قليلة جدا بسبب عدم تنفيذ مشاريع لإيصالها إلى الأراضي الزراعية عبر شبكات الري التي توقف تنفيذها منذ العام 2003، وبالتالي فالاعتماد هو على الآبار والأنهار والينابيع، وهي عملية تزيد من التكاليف لأنها تستخدم المحركات لضخ المياه، وهي تحتاج إلى كميات كبيرة من المحروقات.
قد تجيب الأرقام السابقة على السؤال: لماذا تهتم الحكومة بالري الحديث؟ ولكن ليس هذا كل شيء!
هدر الإمكانيات
لقد نجحنا ببناء شبكة واسعة من السدود في جميع المحافظات لتحزين المياه بهدف استخدامها في الأشهر الحارقة وحسب المحاصيل المزروعة، ولدينا حاليا 163 سدا بطاقة تتجاوز 19 مليار متر مكعب، وهي إمكانيات كبيرة لكنها ستبقى إمكانية مهدورة طالما لا نُحسن استخدامها بالشكل الأنسب. والأنسب هنا هو استخدام مياه السدود في إرواء الأراضي الزراعية.. وهذا لم يحصل حتى الآن، فلماذا؟
لقد أوضحنا بالأرقام إن الأراضي الزراعية لاتزال تُروى بمعظمها من الآبار والأنهار والينابيع، والأسوأ أننا نروي الأراضي بالغمر، أي نعطيها أكثر من حاجتها، فتنجرف التربة وتتملح وتلحق الضرر بالمياه الجوفية فتُملّحها بسبب عدم وجود شبكات لتصريف مياه الري. أما سبب عدم الاستفادة من مياه السدود فيعود لعدم تنفيذ شبكات ري كافية من جهة، ولعدم استخدام مياهها في الري الحديث من جهة أخرى. وعلى الرغم من أهمية بناء المزيد من السدود لتخزين المياه، وعلى الرغم من ضرورة زيادة شبكات الري، فإن من المهم جدا أيضا ترشيد استخدام مياه السدود الذي كلفتنا المليارات، فما فائدة مياه السدود إذا كانت تروي الأراضي الزراعية بالغمر؟
لو أن الحكومات السابقة اهتمت بالري الحديث على التوازي مع بناء السدود وإقامة شبكات الري لكان المشهد الآن مختلفا، ولتحولت الإمكانيات في السدود والشبكات إلى طاقة خلاقة لري أكثر من 2.5 مليون هكتار بالري الحديث.
الوفر بالمليارات
لقد توقف (المشروع الوطني للتحول إلى الري الحديث) منذ العام 2012، وقد وجدت الحكومة أن الظروف أصبحت متاحة لإعادة تفعيله من جديد، وإذا لم تفعل فستهدر المليارات سنويا. وتشير الأسباب الموجبة للمشروع أن تحويل 1.2 مليون هكتار للري الحديث سيوفر 4 مليارات مكعب من المياه سنويا يمكن الاستفادة منها في مجالات أخرى.
أكثر من ذلك.. إن اعتماد زراعة السلع الرئيسية على الري الحديث يضمن استقرار الإنتاج، وبخاصة الحبوب، ويعيد سورية إلى بلد مصدر للقمح، كما كانت عليه قبل العام 2008، وهذا يعني توفير المليارات سنويا على خزينة الدولة. وبما أن أكثر من 85% من مواردنا المائية المتاحة تستنزف في الري التقليدي فإن من الواجب الوطني أن نستنفر الإمكانيات للتوسع باستخدام الري الحديث.
حتى الآن، وافقت اللجنة العليا للتحول إلى الري الحديث على إعادة إطلاق العمل بمنح قروض التحول إلى الري الحديث للفلاحين الذين تحقق أراضيهم شروط منح القرض، وذلك من ضمن الرصيد الموجود لدى صندوق التحول للري الحديث حالياً والبالغ ملياري ليرة. وتخطط وزارة الزراعة لتحويل 1200 هكتار للري الحديث في محافظات حلب واللاذقية وطرطوس ودمشق ودير الزور، خلال العام 2019، وهي خطة قد تكون مقبولة في عام تفعيل المشروع الوطني للتحول إلى الري الحديث، لكن التخطيط لتحويل أكثر من مليون هكتار للري الحديث يحتاج إلى إمكانيات أكبر، بل إلى خطة خمسية باعتمادات ترصد في موازنة الدولة مع برامج مادية وزمنية لترجمتها على أرض الواقع. وقد يكون محصول القطن له الأولوية في الري الحديث لسببين على الأقل، فهو يستهلك النسبة الأكبر من المياه مقارنة بالمحاصيل الأخرى من جهة، ولكون تصدير معظمه خاما حتى الآن يعني أننا نصدر الماء فعليا من جهة أخرى.
ومهما يكن من أمر، فإنه دون خطة خمسية تحدد الأولويات وترصد الاعتمادات وتحدد جهات المتابعة والتنفيذ لا يمكن التعويل على تحويل أكثر من مليون هكتار للري الحديث خلال السنوات القليلة القادمة.. وإليكم السبب!!
العبرة في التنفيذ
صحيح إن الحكومة قررت دعم المعامل الخاصة التي توقفت لأسباب مختلفة عن تصنيع معدات تقنيات الري الحديث، ولكن هذا لوحده ليس كافيا، لأن المطلوب إقناع الفلاح باستخدام هذه التقنيات من خلال دعمه بشرائها من جهة، وإقامة خطوط إنتاج لتصنيعها في شركات وزارة الصناعة من جهة أخرى،
والأهم إلزام المصارف بتقديم قروض للفلاحين تتحمل الحكومة فوائدها ليتحولوا إلى الري الحديث، إضافة إلى منح سعر تشجيعي للمحاصيل التي تستخدم تقنيات الري الحديث أيضا.
والحكومة هي الرابحة في جميع الأحوال بوقفها لهدر ثروتنا المائية التي تشح عاما بعد عام. وإذا كانت الحكومة تخطط فعلا لإلزامية التحول للري الحديث في الأراضي المخصصة لزراعة القطن فإن من الضروري أن توفر الإمكانيات التي تدفع بالفلاحين إلى التنفيذ دون أي إرهاق مادي.
لقد سمعنا تصريحات جميلة جدا من الوزراء المعنيين، ولكن، كما نقول دائما: العبرة في التنفيذ!
في الإعادة.. إفادة
نعم.. العبرة في التنفيذ، وبما أنه في الإعادة إفادة فإننا سنعيد نشر المعلومة التالية:
“أنجز الفنيون في وزارات الزراعة والري والتخطيط والصناعة دراسة حول احتياجات سورية من تجهيزات الري بالرذاذ والتنقيط، وتشكلت لجنة من الوزارات المذكورة لوضعها موضع التنفيذ في أقرب فرصة ممكنة لتقليل الفواقد من المياه المستخدمة في ري المزروعات، وزيادة المردود في وحدة المساحة، والحد من تدهور التربة وتملحها، وبخاصة تلك التي تفتقر إلى شبكات ري وصرف.. إلخ”.
المفاجأة.. ان هذا الخبر نشرته صحفنا المحلية في شباط 1988.. نعم، منذ أكثر من ثلاثين عاما!
وها نحن نعيد الكرة من جديد، وكأنّ عقارب الساعة تعود للوراء!
ومع ذلك، نأمل أن تكون في الإعادة إفادة!
الخلاصة
مواردنا المائية الشحيحة دفعت حكوماتنا السابقة منذ ثمانينيات القرن الماضي للتحدث عن إمكانية تحويل أكثر من 2.5 ملايين هكتار للري الحديث، ولكن.. بسبب عدم وضع الخطط، ورصد الإمكانيات المادية والفنية، فقد فشلت جميع الحكومات بتحقيق الهدف. ومن المؤسف أن نعيد الحديث الآن مجددا عن إمكانية تحويل مساحة أقل للري الحديث دون أي خطط مبرمجة، وكأنّنا نخالف القول المأثور: في الإعادة.. إفادة!!