بشرى الحكيم
لطالما كانت مدينة حلب محطة اقتصادية هامة ومركزا تجاريا رئيسيا نظرا لموقعها الاستراتيجي على طريق الحرير، وبتنامي هذا الدور شكلت مركزا استقطب العديد من القادمين إليها، مقيمين أو عابرين، في طريقهم إلى جهات الأرض الأربع، ومنهم – بطبيعة الحال – أولئك الذين كانت فلسطين والأماكن المقدسة وجهتهم ومحجهم؛ ولهذا فقد ازدادت حاجة المدينة لأمكنة تستوعب أعداد القادمين إليها وتكون ملاذهم الآمن والمريح خلال إقامتهم فيها، الأمر الذي عزز أهمية خاناتها، التجارية بأنواعها والسياحية كمقارٍ للإقامة والسكن بالنسبة للجاليات الأجنبية، والاستراحة للمسافرين والرحالة والحجاج، وللتعارف بين القوميات والأجناس وتبادل الآراء تماما كالمؤتمرات التي تعقد اليوم في الفنادق، وكذلك لمرور الباحثين والدارسين ولجوء عابري السبيل من الفقراء الذين كان لهم الحق في الإقامة فيها مجانا طالما يحتاجون الإقامة أو بدفع مبلغ معين. تلك الخانات غالبا ما تموضعت داخل أو بالقرب من الأسواق التجارية، فكانت خانات الصابون والجمرك والوزير القاضي والشونة، وغيرها، قبلة لهؤلاء الزوار سواء في زياراتهم التجارية أو في مسيرة الحج وسياحتهم الدينية، وهو ما كان لخان الهوكيدون الذي كان أكثرها استقطابا للحجاج، وبات أحد أهم المعالم حضورا في ذاكرة الحلبيين لمكانته التاريخية والدينية والسياحية.
يقع الخان في شارع التلل الشهير أحد أهم مراكز التسوق في المدينة، ويتموضع ما بين ساحة فرحات وباب الفرج، وقد تحول بفعل النشاط التجاري المتزايد إلى مركز للتسوق، وتحولت غرفه التي كانت معدة لاستقبال النزلاء والحجاج إلى دكاكين تباع فيها السلع التجارية من أقمشة وألبسة وخلافها.
وتعني الهوكيدون باللغة الأرمنية “بيت الروح”، وتعود هذه التسمية إلى كونه شكّل ملاذا ومكانا لمبيت غالبية الحجاج من الأرمن في طريقهم إلى القدس – ما جعله يكتسب فيما بعد اسم خان القدس – تاركين على جدران غرفه الكثير من الكتابات الأرمنية التي تعود إلى القرن السادس عشر الميلادي، والتي ما زالت موجودة حتى اليوم.
رغم ذلك، لم يقف هذا التحول حائلا أمام بقاء الخان نقطة استقطاب وجذب هامة للسياح من أهل المدينة أو الغرباء على السواء، ذلك لما يتميز به عن بقية الخانات في المنطقة بواجهته التي زادتها الزخارف والنقوش جمالا، وبهندسته المعمارية التي أهلته ليكون قبلة الكثير من الدارسين والباحثين في تاريخ المدينة وتاريخ الهندسة المعمارية.
والخان الذي ورد ذكره في مخطوطة تاريخية تعود إلى لقرن الثامن الهجري، وتؤرخ للفترة التي أنشئ فيه البناء، في سنة 947 هجرية (1540 ميلادية)، يتميز بمدخلين رئيسيين ينفتح أحدهما على شارع التلل، بينما يطل الآخر على ما يطلق عليها جادة الياسمين، أو بوابة القصب. وقد جرت العادة على إغلاق البوابتين بعد الساعة الثانية عشرة ليلا. والخان الذي يعد من الخانات الصغيرة نوعا ما يتكون من طابقين اثنين، ويزين واجهته المطلة على شارع التلل عدد من نقوش وزخارف الباروك والروكوكو، وعدد من الرسومات الهندسية بنهايات حادة، أما قوس الخان ذو الشكل البيضاوي فهو يؤدي إلى بهو غير مسقوف تتوزع على أطرافه المحال التجارية التي يليها مدخل صغير ينفتح على صحن الخان الذي تحيط به غرف وزعت على طابقين اثنين يضم الأول، إضافة إلى المستودعات الواسعة، عددا من الغرف المجهزة لتقديم الخدمات للزوار والحجاج في الطابق الثاني، قبل أن تتحول جميعها، بفعل النشاط التجاري الذي طغى على كل شيء، والحاجة إلى التوسع في الأعمال التجارية، يضاف إليهما نوع من الإهمال للأمكنة الأثرية وعدم تقدير أهميتها التاريخية، من شواهد مهمة على روعة العمارة والمعمار الحلبي، إلى مجرد مجموعة من الدكاكين لبيع السلع والمواد الاستهلاكية
